إن الزندقة أكثر ما انتشرت في العراق ؛ لأنها الأقرب إلى بلاد المجوس، فظهرت الزندقة في البصرة، والكوفة أما في مصر فكان ظهورها نادراً، وأما في المدينة وسائر أرض الحجاز فلم يكن هناك وجود للزنادقة والحمد لله؛ لأن الدسائس والمؤامرات كانت من أجل النفاذ إلى مرافق الدولة، لتقويض دولة الخلافة العباسية ولإبراز المجوسية مرة أخرى، فظهر هذا المبدأ، وكان الخليفة المهدي أشهر من عرف بقتل الزنادقة، فحين تقرأ في أي كتاب من كتب التاريخ فإنك تجد أن أعظم أعمال المهدي قتله للزنادقة، فكان يتتبعهم ويتصيدهم تصيداً، ويسلط عليهم العلماء والثقات من الناس يتتبعون كلامهم وآراءهم، فمن وجدوه قبضوا عليه، ومن وجدوا عنده شيئاً من كتب الإلحاد وأثبت عليه هذا الإلحاد فإنه يقتل فوراً، فقتل منهم المهدي جمعاً كبيراً، ومع ذلك بقيت الزندقة، وكان ممن اشتهر بالزندقة وقتل عليها كثير من الكتاب والشعراء والوزراء، ومنهم البرامكة الذين كانوا وزراء لـهارون الرشيد وكانوا أشهر وزراء الدولة العباسية، إلا أنهم لم يتبعوا منهج أبي مسلم في الدعوة إلى هذه العقيدة، بل سلكوا طريقاً آخر حتى تمكنوا في الدولة، وحين تبين للرشيد رحمه الله أنهم زنادقة، قتلهم وأقام فيهم حكم الله تعالى، وقد ظهر له ذلك بأدلة كثيرة، كما نبهه بعض العلماء الربانيين إلى أنهم مجوس يعبدون النار، كما قال فيهم الأصمعي رحمه الله:
إذا ذكر الشرك في مجلسٍ            أضاءت وجوه بني برمك
وإذا تليت عندهم آية            أتوا بالأحاديث عن مزدك
ومزدك هو رأس المزدكية (الشيوعية الأولى) قبل ماركس ولينين، فكان أن حج هارون الرشيد، وكان قد بدأ يشعر بمكرهم فأشاروا عليه قائلين: يا أمير المؤمنين! لو أنك وضعت في الكعبة مجمرة كبرى، ووضعت فيها العود لكان ذلك سابقة لك لم يفعلها أحد قبلك، فعلم وفطن أن هذه حيلة منهم لتكون ذريعة إلى عبادة النار، وقال: (لئن رجعنا إلى بغداد ليرين الله ما أصنع) فلما عاد إلى بغداد فتك بهم.
ومن الكتاب والأدباء المتهمين بالزندقة عبد الله بن المقفع، وكان يقال عنه: إنه ألف الكتب ليصرف الناس عن القرآن -وما أكثر الملهيات اليوم والله المستعان- فـعبد الله بن المقفع كان مهتماً بالزندقة وثبتت عليه التهمة، وكان إذا مر ببيت تعبد فيه النار يتمثل بقول الشاعر الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل            حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني            قسماً إليك مع الصدود لأَمْيَلُ
يعني: أنا أصد عنك في الظاهر، لكنني والله أحبك وأميل إليك بالباطن، ومن الشعراء الذين قتلوا على الزندقة بشار بن برد، وله أشعار يظهر فيها وقوعه في الزندقة، منها قوله:
إبليس أفضل من أبيكم آدم...
وهذا كفر واضح والعياذ بالله.
وصالح بن عبد القدوس له شعر كثير في الزهد، ويلمس من شعره أن غايته التزهيد في الدنيا، ولكن هذا التزهيد في الدنيا لم يكن عن إيمان بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على مذهب الصوفية من الهندوس وأمثالهم ممن يزهدون في الدنيا، ويعتقدون أنه لابد أن تُصفَّى الروح لتتحد بـ(براهما)، وعلينا أن نعلم أن الزهد إذا لم يكن أصله وباعثه الإيمان بالله وبرسوله؛ فإن ذلك لا ينفع صاحبه؛ فهو أشبه برهبان النصارى.
ومن أولئك الزنادقة أبو العلاء المعري، وأشعاره مشهورة تشهد بزندقته، وكل من ترجم له يذكر ذلك -والعياذ بالله- وكذلك الحلاج، الذي قتل بسبب ما أظهره من زندقة، وكذلك السهروردي وأمثالهم ممن قتلوا بتهمة الزندقة.
إلا أن بعض هؤلاء الزنادقة ظهر أمره، وبعضهم لم ينفضح أمثال المعتزلة الكبار الأوائل كـأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام، فقد كانوا زنادقة، بل الجاحظ يعد من الزنادقة، وله رسائل تشهد على أنه زنديق والعياذ بالله.
وقد قتل كثير من الناس بتهمة الزندقة حتى قيل: إنهم بلغوا الآلاف، ثم انتشر هذا المصطلح وأصبح يطلق على كل من انحرف عن الدين وأظهر الطعن في آيات الله أو الاستهزاء بدين الله بأي شكل من الأشكال.